جويرية بنت الحارث.. تنويرية سبقت قاسم أمين في تحرير المرأة

شهد العام الأول للقرن العشرين في مصر، معركة فكرية عاصفة بصدور كتابي قاسم أمين "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، وكان المجتمع والصحافة والأدب برجالاتهم هي الساحات الأساسية التي دارت فيها المعركة.

ومن الأفكار التي سُلت لها السيوف في كتاب "تحرير المرأة" كانت فكرة ترى أن الدين ليس مسؤولا مطلقا عن جهل المرأة، وبمشرط جراح ماهر يعرف خبايا المجتمع ومشكلاته، أرجع قاسم السبب في الانحطاط الذي وصلت إليه المرأة إلى عاملين، الأول تقاليد الأمم غير العربية التي دخلت الإسلام وكان وضع المرأة فيها مهينا، والثاني الأنظمة الاستبدادية التي خيمت على المسلمين. 

النظرية التي افترضها قاسم أمين، نرجح صحتها، وخير مثال هو أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها، فعند التدقيق في طريقة زواجها من نبي العالمين محمد بن عبدالله، ستجد أنها ولدت وعاشت حياتها سواء عمرها قبل دخولها الإسلام أو بعده، حرة الروح، مستنيرة الفكر، حكيمة الطبع، نبيلة الهدف، قوية العزيمة.

لم يشغلها حزنها على مقتل والدها الحارث بن ضرار، وزوجها مسافع بن صفوان قتيلا غزوة بني المصطلق التي سبيت فيها، عن انتشال نفسها ومن معها من براثن رق عُرف آن ذاك، لم ترد سوى استرداد حريتها وكرامتها هي ومن معها ممن سبي في تلك الغزوة، ولأن الإسلام دين إنسانية جاء لتحرير البشر من ديكتاتورية القبيلة وظلامية الاستعباد، رحب برد حرية جويرية ومن معها من نساء بني المصطلق، وهذا ما قصده قاسم أمين من أن تدهور وضع المرأة لا علاقة له بالدين، وإنما لأسباب أخرى كالأنظمة الاستبدادية التي خيمت على الدين واستغلته أيضًا.

ذكرت كتب السيرة، أن جويرية ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب منه أن يعينها في مكاتبتها لعتق رقبتها، فعرض عليها قضاء كتابتها وزواجه بها، فقبلت، فتزوجها النبي، وجعل عتقها صداقها، فلما علم الناس بذلك أعتقوا من بأيديهم من الأسرى، إكراما لأصهار الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى أعتق منهم أهل مئة بيت، فما كانت امرأة أعظم على قومها بركة منها". 

لنتخيل، امرأة جردت من كل وسائل الدعم المادي، "قبيلة وأب وزوج" ووجدت نفسها سبية حرب توزع كغنيمة، هي في أضعف حالاتها المعنوية والمادية، ورغم ذلك واجهت رجلا له من الهيبة والمكانة ما يجعل أكبر الملوك يخشاه وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ذهبت تفاوضه على حريتها وتطلب منه العون، فماذا فعل؟

كان لها ما اشتهت وزادها النبي بأن جعلها أمًا للمؤمنين بزواجه منها.

ما قامت به أم المؤمنين جويرية هي ثورة على الصعيدين السياسي والاجتماعي، التي وافقت مبادئ الإسلام من القضاء على الرق، ثورة سعت أم المؤمنين من خلالها إلى تعزيز الحرية ورفض التملك ومحاربة الجهل والأمية فيما يمكن أن نسميه قيادة حركة تنويرية داخل المجتمع العربي القبلي.

وبهذا تكون أم المؤمنين سبقت "قاسم أمين" في تحرير المرأة، وكان ذلك في عصر الرسالة أي قبل ميلاد قاسم بنحو ما يزيد على 1300 عام.

مجلبة الخير

السيدة جويرية، رضي الله عنها، هي "برة" بنت الحارث بن ضرار من بني المصطلق، سماها رسول الله جويرية بعد زواجه منها، وكان أبوها سيد قومه، تزوجت من ابن عمها صفوان، الذي كان من ألد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم.

والقصة كاملة وفقًا لكتب السيرة، أنها رضي الله عنها كانت في قسم ثابت بن قيس، فكاتبته على 9 أواق، وطلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم  أن يعينها، فعرض صلى الله عليه وسلم عليها الزواج، وأن يدفع ذلك عنها، فقبلت، واختارت الإسلام، وفور سماع المسلمين بخبر إسلامها وأنها زوجة المصطفى، أعتقوا ما كان بين أيديهم من السبي إكراما للنبي. 

وعن هذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "لقد أعتق بهذا الزواج مئة من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها". 

فلما رأى بنو المصطلق إحسان النبي وأصحابه لهم، دخلوا في دين الإسلام، وتركوا عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت امرأة مباركة على قومها. 

الرقّ في عصرنا الحالي

ما حاربته امرأة أصبحت لاحقًا زوجة نبي من 1400 عام ويزيد، لا يزال متوغلًا في المجتمعات الحالية وبأشكال مختلفة.

وتظهر أحدث تقديرات منظمة العمل الدولية أن العمل الجبري والزواج القسري قد زادا زيادة ملحوظة في السنوات الخمس الماضية.

فقد كان هناك 10 ملايين شخص في براثن الرق الحديث في عام 2021 مقارنة بالتقديرات العالمية لعام 2016، وبذلك يصل المجموع إلى 50 مليونًا في جميع أنحاء العالم، ولم تزل طائفتا النساء والأطفال هما الأشد استضعافا. 

ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن مصطلح "الرق الحديث" لم يُعرّف قانونا، إلا أنه يُستخدم مصطلحا شاملا يشمل ممارسات من مثل العمل الجبري، ورق الديون، والزواج القسري، والاتجار بالبشر. 

ويشير بشكل أساسي إلى حالات الاستغلال التي لا يمكن لأي شخص رفضها أو الفكاك منها بسبب التهديدات والعنف والإكراه والخداع أو إساءة استخدام السلطة. 

ويحدث الرق الحديث في كل بلد تقريبًا في العالم، متخطيا الخطوط العرقية والثقافية والدينية، ويمكن العثور على أكثر من نصف (52 في المئة) جميع العمالة القسرية وربع حالات الزواج القسري في البلدان ذات الدخل المتوسط ​​المرتفع أو البلدان ذات الدخل المرتفع.

ويُمثل اليوم الدولي لإلغاء الرق، 2 ديسمبر، تاريخ اعتماد الجمعية العامة لاتفاقية الأمم المتحدة لقمع الاتجار بالأشخاص واستغلال بغاء الغير قرار 317 (الدورة الـ15) المؤرخ 2 ديسمبر 1949).

وينصب التركيز في هذا اليوم على القضاء على أشكال الرق المعاصرة مثل الاتجار بالأشخاص والاستغلال الجنسي وأسوأ أشكال عمل الأطفال والزواج القسري والتجنيد القسري للأطفال لاستخدامهم في النزاعات المسلحة.

فضلها وفضائلها

وقد كان في هذا الزواج المبارك لسيد الخلق، توثيق للرابطة بين الإسلام وبعض القبائل، الذي كان وراء إسلام قبيلتها كاملة. 

وقد رأت السيدة جويرية، رضي الله عنها، قبل مجيء النبي بثلاثة أيام، القمر يمشي نحوها، ونزل عندها. 

ومن ميزات السيدة جويرية رضي الله عنها، أنها مثال للمرأة الصالحة التي ترعى بيتها وزوجها، وعرفت بالاجتهاد في العبادات، وكثرة الذكر، فقد روي عنها أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج من عندها وقت صلاة الفجر وهي في مسجدها، وبعدما عاد وجدها ما زالت كما هي جالسة، تسبح، فقال لها: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها"، فقالت: "نعم"، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد قلت بعدك 4 كلمات 3 مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: "سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته". 

وفاتها

وتوفيت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث في شهر ربيع الأول سنة 56 في إمارة معاوية، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو يومئذ والي المدينة، ودُفنت في البقيع مع باقي أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعا.